السبت، 12 مارس 2011

الموانع الخمسة/ االمانع الرابع : طغيان مبدأ التخصص



المانع الرابع
طغيان مبدأ التخصص
   عزيزي القارئ، لو أنك رأيت يوما من يبحث عن فقيه من الفقهاء ليسأل عن حكم الصلاة في الإسلام بحجة أنه يسأل أهل التخصص وأنه هو غير متخصص، فهل ترى ذلك الأمر مقبولا؟
   وإذا رأيت شخصا مسلما غنيا يسأل فقيها عن وجوب شيء يسمى الزكاة فهل تراه مقبولا؟
   هذه الصور غير مقبولة.. لماذا؟
   لأن المعلومات التي يسألون عنها هي من (البنية التحتية) المعرفية لأي مسلم.
   فمعرفة أن معرفة أن الصلاة واجبة على البالغ، وأن الزكاة واجبة على الغني، وأن الزنا حرام وأن الخمر حرام ...إلخ، فهذه الأمور هي من الأساسيات التي يعرفها كل مسلم، وليست من المسائل التي نذهب ونسأل عنها المتخصصين؛ فالمتخصصون لهم مسائلهم التخصصية الدقيقة، أما هذه المسائل أو هذه المعارف فإنها من الأساسيات التي يشترك فيها المسلمون أو هو ما ينبغي أن يكون عليه الحال.
   ولذلك لا تجد الفقهاء يقولون: إن مذهب الإمام أبي حنيفة هو أن الصلاة واجبة، أو إن مذهب الإمام مالك هو أن الزنا حرام، أو إن مذهب الإمام الشافعي هو أن الخمر حرام.. لأن هذه المسائل لا تحتاج فيها إلى سؤال الفقهاء.
   ولأجل ذلك لا يعتبر العلماء هذه المسائل من مسائل الفقه أصلا، لأنها لا تحتاج إلى اجتهاد واستنباط.
   هذا في الفقه وهو واضح، ولم يدخله الخلط والحمد لله. ولكن قد وقع الخلط في المعرفة التي تتعلق بالقرآن سواء في تفسير الآيات أو في علوم القرآن التي تتعلق به.
   إن الجهل بالقرآن منتشر في زماننا أكثر من الجهل ببعض الأحكام الرئيسية، وصار الناس في معلومات القرآن تماما كالذي يسأل الفقيه عن حكم الصلاة وحكم الزكاة وحكم شرب الخمر!
   ولكننا لا ننتبه إلى تلك الحقيقة لأن المسائل القرآنية قد اختفت تماما من القاعدة المعرفية للمسلم، ففي الفقه والأحكام الشرعة يستطيع الناس أن يدركوا تقصيرهم، لأن بعض الأحكام الأساسية لا تزال موجودة، فيمكنهم من خلال معرفتهم الأساسية أن يتصوروا المشكلة لو شرحناها لهم، أما علوم القرآن فإن مجرد التصور غير ممكن! لأن القاعدة الأساسية للمعرفة القرآنية تكاد تختفي تماما عند الناس، فلا توجد حتى بعض المسائل التي يمكن أن نضرب بها الأمثلة لتوضيح المسائل التي لا يعرفونها. وهنا نشعر بحجم المشكلة حين نجد صعوبة كبيرة في توضيحها للناس.
   وفي ظل افتقادنا للقاعدة المعرفية عن القرآن نرى جماهير الناس  تتوجه إلى المتخصصين في علوم القرآن يسألونهم عن كل شيء!.
وسؤال المتخصصين في ظل هذه الظروف ليس شيئا سيئا، بل هو المطلوب، ولكن الشيء السيئ هو أن يتحول الجهل بالقاعدة الرئيسية القرآنية إلى أمر عادي، بحيث يبرر الإنسان جهله بكونه غير متخصص!
   يعني تخيل معي الآن شخصا لا يعرف أن الصلاة فرض وأن الصيام فرض، وأن الخمر حرام، وأن الزنا حرام.. فتقول له: كيف يا فلان لا تعرف هذه الأحكام؟؟
   فيقول: هذا طبيعي؛ فأنا مهندس، ولست متخصصا في الفقه الإسلامي، وكل إنسان له تخصصه، فأنا درست في كلية الهندسة، وغيري درس في كلية الشريعة الإسلامية، وهكذا تتوزع الأدوار والتخصصات.
   فهل تقبل منه هذا التبرير؟.. الجواب لا؛ لأن هذه الأحكام لا تتعلق بمجال التخصص، وإنما هي قاعدة رئيسية من المعلومات، تسمى (المعلوم من الدين بالضرورة) وقد قال الفقهاء في كتبهم إن هذه الأحكام من ينكرها أو يقول هي ليست من الإسلام فإنه لايكون مسلما.
   وعلى الرغم من ذلك، فالواجب المتعين عليه الآن هو أن يسأل عن هذه الأحكام الأساسية، حتى لو كان المفترض أن يكون عارفا لها.. وليس العيب الآن في أن يسأل؟ ولكن العيب هو أن يعتبر الجهل بهذه المسائل شيئا عاديا لأنه غير متخصص في الفقه! ونفس الشيء في علوم القرآن وفهم القرآن.
   إن الارتكان إلى التخصص واعتبار كل المسائل المتعلقة بالقرآن هي من شأن المتخصصين قد ساهم مساهمته الرئيسية في أزمة فهم القرآن، لأن الذي يطمئن إلى أن جهله بمعاني القرآن هو شيء طبيعي، فإنه لن يتحرك ليرفع عن نفسه هذا الجهل، ولماذا يرفعه؟ إنه ليس من المتخصصين!.. وهل كل إنسان يكون مطالبا بمعرفة التخصصات الأخرى كلها! ..هكذا يفكر الناس، وهكذا استحكمت الأزمة.. أزمة فهم القرآن..
   إن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق المتخصصين في علوم القرآن؛ إنهم هم أيضا اعتبروا مايفيدون به الناس أنه مادة تخصص، فسكتوا عن جهل الناس، أو اشتكوا هم أيضا من جهل الناس، في حين أنهم هم المطالبون برفع الجهل عن الناس، لا أن يشتكوا منهم!
   إن الفقيه لو جاءه رجل يسأله: ما حكم الصلاة؟ إنني لا أعرف حكمها ..
   فهل يصح هنا أن يفتيه فيقول له: فرض، وينتهي الأمر إلى هذا الحد، ثم ينتقل إلى الفتوى التي بعدها!.. لا يصح هذا، ولابد من وقفة مع هذا السائل، فيسأله عن مولده ومكان إقامته وكيف تربى ونشأ ..إلخ، هذه الأسئلة تكشف سبب وصول السائل إلى هذه الحالة من الجهل بضروريات الإسلام، ثم لابد من أن يوجهه بعدها إلى أن يتعلم أساسيات دينه وأركان الإسلام ..إلخ، لا أن يخبره عن الحكم ويسكت!
   إن واجب المتخصصين في علوم القرآن كبير جدا، إن عليهم أن يمنحوا الناس القاعدة الرئيسية من العلم حول القرآن ، فليست كل المعارف والمعلومات حول القرآن هي من شأن المتخصصين، تماما كما أنه ليست كل الأحكام الفقهية هي أحكام تخصصية اجتهادية، ومن شأن الفقهاء.
   إن التخصص في حد ذاته شيء جيد، ولكنه يتحول إلى شيء سلبي لو توسع على حساب جهل عامة المسلمين، فيترك الناس جهّالا مساكين؛ كلما أرادوا أن يعرفوا أوضح معلومة ذهبوا إلى المتخصصين.
   وبهذا اعتبر الناس أن أية معلومات تتعلق بالقرآن سواء في تفسيره أو في علومه هي من شأن التخصص، وبالتالي لم يعرفوا من القرآن إلا قراءة حروفه!
   إن هذا السلوك المغلوط قد انبنى عليه مفهوم آخر هو غلط كذلك، وما ينبني على باطل فهو باطل.. هذا المفهوم الجديد هو الفصل بين العلم بالقرآن وبين المعارف الروحانية القرآنية.. فنسمع البعض يقول – مثلا -:
(إننا مع تقديرنا للعلم واحترامنا له، إلا أن هناك أفرادا ليسوا من أهل التفسير والعلم فيه، ولكن لهم نفحات من الله لإخلاصهم ولصدق نفوسهم ..إلخ، وهؤلاء نستفيد من خواطرهم وكتاباتهم أمورا تربوية في النفس ولا نأخذ منهم علما..) أو كلاما قريبا من هذا.
    هذا الفكر خطأ وخطير جدا، إنه يقوم على أساس أن كل علم أو كل فهم يتعلق بالقرآن هو من شأن المتخصصين، فلابد وأن تسأل فيه المتخصص، يعني لا تتجاوز في القرآن أن تقرأ الأحرف وتتلفظ بها فقط، أما أن تفهم أدنى فهم فهو ليس من العلم، فليس إذا من شأنك، وإنما هو من شأن المتخصصين!!.. ثم لما رأوا أن هناك كتابات قوية ومؤثرة من أفراد لا يقال عنهم إنهم (مفسرون) لم يجعلوا هذه الكتابات علما؛ لأن العلم عندهم لا يأتي أبدا إلا من المتخصصين، فتخبطوا في إطلاق الأسماء المناسبة على محتوى هذه الكتابات.. فمرة يقولون نفحات ومرة إلهامات ومرة توفيقات.. ونحو ذلك.
   إن الناس يملكون – تحت كل الحوال - قدرا ولو صغيرا من فهم القرآن بطريقة أو بأخرى، وهذا يدل عليه النظر العقلي الصحيح؛ فالقرآن قد نزل على البشر ليقرر أول مايقرر دلائل التوحيد، أي أن أول ما يوجبه القرآن على الإنسان التأمل والنظر بالعقل في الكون، ليتعرف الإنسان ربه وخالقه.. يظهر ذلك جليا من خلال الآيات التي تحض على النظر والتدبر في (العالم العلوي) و (العالم السفلي) و (في نفس الإنسان).. فهذه ثلاثة مواضع هي جهات للتأمل، وقد دار القرآن عليها في توجيهه للنظر والتدبر..
   فلو أن الإنسان انتقل من هذه الآيات القرآنية لينفذ المطلوب فيها، وهو التأمل في الكون، فهذا يعني لزاما أنه قد فهم هذه الآيات القرآنية، فلو فعل ذلك من لم يكونوا متمكنين في اللغة ولكنهم يفهمون الكلمات القرآنية التي تأمرهم بالنظر في الكون، فهذا يعني أنهم يملكون مقدارا من الفهم في القرآن، حتى مع ضعف لغتهم.
   تأمل هذه الآيات من سورة الأنعام وعش معها :
(إن الله فالق الحبي والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي، ذلكم الله ربكم فأنى تؤفكون. فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا، ذلك تقدير العزيز العليم. وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون. وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع، قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون. وهو الذي أنزل من السمآء مآء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرا نخرج منه حبا متراكبا ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه، انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. وجعلوا لله شركآء الجن وخلقهم، وخرقوا له بنين وبنات بغير علم، سبحانه وتعالى عما يصفون. بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم. ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه، وهو على كل شيء وكيل. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. قد جآءكم بصآئر من ربكم، فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها، وما أنا عليكم بحفيظ) [الأنعام:95-104]
   هل تراك قد فهمت هذه الكلمات القدسية الجميلة وعرفت المراد منها ؟.. هل تراك تحتاج في فهمها إلى الرجوع لمتخصص يفهمك المعاني الرئيسية الواضحة فيها؟
   لا شك أن هناك ما سنحتاج أن ترجع فيه إلى أهل العلم والإخلاص والتقوى من أهل القرآن العالمين العاملين.. ولكن، ليس كل القرآن.. ولا يفقدك هذا علاقتك الشخصية مع الله من خلال القرآن، فافهم القرآن :
(ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) [القمر:17]
   العلاج:
   المفهوم الذي ينبني عليه علاج هذه المشكلة هو أن يدرك المسلم أن هناك قاعدة من فهم القرآن لابد وأن يكون ملما بها، فقد كان منهج الصحابه – رضي الله عنهم - في التعامل مع القرآن هو أن يتلقوه أولا كخطاب مباشر لهم يفهمونه، فقد كانوا عربا يفهمون القرآن، وعلى الرغم من أننا لسنا عربا نفهم العربية على وجهها الصحيح، إلا ان هناك معاني قرآنية واضحة يمكن أن نحصل عليها من خلال تدبرنا وتأملنا لبعض الوقت في القرآن، وهي أوسع أيضا من المعاني المباشرة الواضحه التي نعرفها من أول لحظة نقرأ فيها الكلمات العربية في القرآن.
   إنني أدعو إلى التأمل..أي أن يتأمل المسلم في القرآن العظيم بحسب ما تقدر عليه معرفته باللغة العربية، ثم ما لا يفهمه أو ما يستشعر أنه من شأن المتخصصين، فواجبه هنا أن يتوجه إلى أهل الاختصاص، فالله تعالى يقول (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
   إنني أعلم أن القاعدة المعرفية بالقرآن تختلف من جيل إلى جيل ومن بيئة إلى بيئة، فالقاعدة عند الصحابة والأجيال الأولى تختلف عن القاعدة عند من بعدهم، تختلف عن القاعدة في القرون الأخيرة، ولكن هناك قاعدة معرفية على كل حال، وينبغي أن نحافظ أولا على هذه القاعدة ثم نعمل على توسيعها بقدر الإمكان، بشرط ألا تدخل في دائرة التخصص، فإن اقتربنا من دائرة التخصص كانت هناك قوانين أخرى للفهم. والذي لا نقبله بحال هو أن تختفي تماما هذه القاعدة.
إن إعادة العلاقة مرة أخرى بين المسلمين وبين قرآنهم هو مما نسعى إلى تحقيقه من خلال المشاريع والمؤلفات في مجال بالقرآن العظيم ..نعم، نريد من كل مسلم:
مصحفا في يده وفهما في عقله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق