الأربعاء، 9 مارس 2011

الموانع الخمسة / المانع الأول : التقديس الذاتي للقرآن


المانع الأول
التقديس الذاتي للقرآن
   لو أنني أعطيتك كتابا في (الطبيعة) يتكلم عن بعض أنواع الأحياء، أو كتابا علميا يتناول تفصيلا وشرحا لبعض المعادلات، وطلبت منك أن تقرأ هذا الكتاب، وقلت لك : هذا كتاب مشهور عند أهل التخصص، ويعظمونه جدا، لذلك فاقرأه.
   ولكنك بمجرد أن بدأت في القراءة وجدت أن الكتاب صعب في إيصال المعلومة، وأنك تبذل مجهودا كبيرا لتفهم منه معلومة واحدة عادية، أو أنك لا تخرج منه بفائدة أصلا، فالنتيجة الطبيعية لذلك هي أن تترك الكتاب، أو تبذل مجهودا مضاعفا لمحاولة الحصول على فائدة منه، فإن عجزت عن ذلك أو كانت الفائدة أقل من المجهود، فهنا ستترك الكتاب جانبا دون تردد، ولن تعيره اهتماما.
   فلو قلت لك : ليس مهما أن تفهم، ولكن اقرأ الكتاب لأنه عظيم عند أهل التخصص ، فسيكون الرد الطبيعي : إنك مجنون !
   هذا التصرف مع الكتاب هو رد الفعل الطبيعي تجاه أي كتاب لا يمكنك فهمه، فعظمة الكتاب هذه يدركها من يفهموه أو يقدرونه، أما أنا فلابد من أن أفهم الكتاب أولا حتى أقول هو عظيم، وأستمتع بعظمته. أما لو لم تفهمه فإما أن تتركه، وإما أن تبذل جهدا مضاعفا لفهمه؛ ففهم الكتاب هو الدافع الوحيد لبذل مجهود فيه.
   أما القرآن فهو على خلاف ذلك كله ..!
   اذهب إلى بائع الخضروات الجالس بالسوق، أو استوقف أي بائع متجول في الطريق، أو أي شخص من حولك، واسأله : هل هذا القرآن فيه كل شيء؟
سيقول لك : نعم طبعا هذا (كلام ربنا ) فيه كل شيء ..
قل له : فيه كل شيء من العلم ؟ فيه الحساب... والفلك... والطبيعة ...؟
ربما قال لك : نعم ، فيه كل شيء حتى اسمي واسمك ورزقي ورزقك..و(كل حاجة هتلاقيها في القرآن )..
   هنا، ناوله المصحف وقل له: استخرج لي شيئا واحدا من هذا الـ (كل شيء) الموجود في القرآن.
   لن يستطيع أن يخرج لك شيئا واحدا، وربما كان في الأصل أميا لا يقرأ!!
   ما الأمر؟ ما الذي أوجد هذا الفارق بين القرآن وبين غيره من الكتب؟
   إن السر في ذلك هو أن القرآن يحمل قدسية خاصة عند المسلمين لا يحملها أي كتاب آخر على سطح المعمورة؛ فهو الكتاب الوحيد الذي أستطيع أن أجزم أنه يحوي كل شيء حتى ولو لم أفهم أنا هذه الأشياء من المصحف، أي إنني يمكنني بكل اطمئنان أن أقول: إنني أنا الذي لم يفهم القرآن، أما القرآن في ذاته فهو حق، ولا باطل فيه.
   ومصدر هذه القدسية هو كون القرآن كلام الله العظيم الجليل، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو كتاب عليّ حكيم محفوظ في أم الكتاب عند الله، فكيف أعامله معاملة الكتب الأخرى؟
   ذلك التقديس – الذي هو حق في ذاته – أورث المسلمين الآن نوعا من الاطمئنان، أدى بهم إلى أن يتقاعدوا عن فهم القرآن العظيم. فكيف وقع ذلك؟
   إن القرآن هو مرجع ودستور هذه الأمة، وهذا يكسبه اهتماما عند المسلمين عظيما من حيث صحة معانيه وعصمتها عن الخطأ، فلو كان القرآن العظيم هو كالكتب الأخرى، لاجتهد المسلمون اجتهادا عظيما في إثبات صحة المعاني والمفاهيم الواردة فيه؛ لأنه دستورهم ومرجعيتهم، أي أنهم سيكونون مضطرين إلى الدفاع عنه، سواء أمام أنفسهم أو أمام الأمم الأخرى، كما تدافع أية أمة عن دستورها، وهذا حال أي مجتمع يصنع لنفسه دستورا بشريا يسير عليه، فهم في حالة استنفار دائمة لإحاطة دستورهم بالمكانة المناسبة التي يرضونها له .
   ولكن، لما كان القرآن له قدسيته الخاصة عند المسلمين، لأنه كلام الله، فهنا لا يجد المسلم نفسه في موقف حرج إذا هو لم يفهم القرآن، لأن القرآن لا ينتظره ليثبت صحته ويدافع عنه، وهنا يطمئن المؤمن تجاه هذه المسؤولية حتى لو لم يفهم القرآن، فيتقاعد عن فهمه، ويرى الأسهل في نفسه والأقرب أن كلما لم يفهم شيئا من القرآن اتهم نفسه وعقله هو، وأجّل محاولة الفهم لوقت آخر، فالأمر ليس عاجلا من وجهة نظره..
   وأحيانا نرى البعض يعبر عن ذلك بأنه يريد الحصول على بعض كتب التفسير السهلة، أو يريد تجميع حلقات الشيخ الشعراوي ..إلخ، ثم تمر الأعوام ولا يفعلون شيئا.
   تلك هي المشكلة التي تشكل السبب الأول لعدم فهم القرآن وهي (قداسة القرآن).. ونلاحظ هنا أن قداسة القرآن هي شيء إيجابي في نفسه، بل ضروري لثبوت وصف الإسلام، فلا يكون مسلما من لم يعظم القرآن، ولكن المشكلة هي في كيفية التعامل مع هذه القداسة، وما ينبني عليها من العمل.
   فالمشكلة إذا هي مشكلة نفسية أو فكرية لدى المسلم، لا في ذات تقديسه للقرآن.
   العلاج :
   أول إجراء يجب اتخاذه في سبيل علاج تلك المشكلة هي أن يدرك المسلم أن قداسة القرآن لا تتعلق بحروف القرآن. بل إن القداسة القرآنية تنبثق من مجموعة من الأمور الجليلة في القرآن، وإن حروف القرآن أو نصوصه العربية المجردة هي واحدة من هذه الأمور وليست هي كل الأمور العظيمة الجليلة، فكيف إذا نكون معظمين للقرآن ونحن لا ندري منه سوى أن نقرأ حروفه أو نصوصه دون أن يكون لنا فهم وتدبر فيه؟
   إذا نقول لمن يعظمون القرآن ويقدمونه، إن تقديمكم للقرآن ناقص؛ لأن القرآن الكريم قد أنزله الله تعالى لنعمل به وليكون دستورا في كافة مناحي الحياة وليكون حاكما في الناس ..
   (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [النساء:105]
   وأنزله الله للتدبر والاتعاظ..
   (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) [ص:29]
   فلأجل هذا أنزل الله الكتاب، فيكون تعظيم الكتاب ناقصا نقصا خطيرا لو اقتصرنا فيه على التلاوة دون الفهم؛ لأنه على خلاف الغاية التي من أجلها أنزل الله تعالى القرآن؛ فقد أنزله للتدبر، وليحكم بين الناس.
   ولم ينزل الله تعالى القرآن لنزين به الأرفف!.. ولا ليوضع على تابلوهات السيارات حتى تأكله الشمس ويتغير لونه بسبب طول تعرضه للشمس!.. ولم ينزل الله تعالى القرآن لنستعرض أجمل طبعاته وزخارفه ..إلخ هذه الأمور التي تعكس تعظيما للقرآن بالفعل، ولكنه تعظيم لا يسمن ولا يغني من جوع لو كان في مقابله أن نهمل تدبر القرآن ونترك تحكيمه في حياتنا.
   ولقد رأينا بعض المستشرقين الألمان من النصارى وهم يعظمون الكتب السماوية وعلى رأسها القرآن، فلا يضعون أقلامهم في المصحف، في حين أنهم يشوهون كتبهم الأخرى بأقلامهم أثناء دراستهم من كتابة تعليق  أو رمز ..إلخ مما يمكن وضعه على أي كتاب، فهل يعد هذا التعظيم شيئا في حقهم وهم باقون على كفرهم؟
   إن الامتثال هو أعلى صور التعظيم، وهذا الامتثال لن يكون ممكنا إلا  إذا سبقه فهم وتدبر كما هو واضح.
   إذا عرف المسلم ذلك، فهنا يجب عليه أن يتخذ طريقة عكسية في التفكير؛عليه أن يستغل هذا التعظيم في التحمس لفهم القرآن، لقد قلنا إن القرآن ينبع تعظيمه من ألفاظه ومعانيه لا من ألفاظه فقط، وهذا كما أنه يدفع لقراءة حروف القرآن ويدفع لتعظيمه ووضعه على رف جميل وحفظه عن الأتربة، فإنه يدفع كذلك إلى تدبر معانيه.
فختاما، نقول للمسلمين: لا يكفي مجرد أنكم تعظمون المصحف وتقدسون كلام الله تعالى، فهذا تعظيم ناقص، ويكون أفضل وأعلى مراتب  التعظيم هو أن نتدبر هذا القرآن، ونمتثل له..
   فواجبكم هو تدبر معاني القرآن، ويساعد على ذلك القراءة في كتب التفسير السهلة التي توضح المعاني المباشرة كمختصر تفسير ابن كثير للصابوني.
   كذلك ننصح أن يحصل المسلم على هذا الكتاب الصغير الجميل، المسمى (كلمات القرآن تفسير وبيان) للشيخ حسنين مخلوف، فهو قاموس صغير جميل، يبين معاني الكلمات القرآنية في سهولة كبيرة، وهو على صغر حجمه نافع جدا، وحجمه الصغير لايوحي بمقدار فائدته الكبيرة.
   كما ننصح قارئ القرآن بنصيحة غالية؛ وهي أن يحاول أن يفهم القرآن أولا بجهده الذاتي، وأن يبذل جهده أولا في محاولة استيعاب المعاني القرآنية الرئيسية. ويساعده في ذلك أن يتصور أن القرآن هو خطاب من الله تعالى إليه ، فإن الذين قد تكلموا في معاني القرآن كلاما حسنا يؤثر في القلوب هم قد قرأوا القرآن واستمعوا إليه على هذا الوجه، على أنه كلام من الله تعالى إليهم مباشرة.
   ولعل ذلك من أسرار التأثر الكبير الذي يحدث في النفوس حين القراءة في كتاب (في ظلال القرآن) للأستاذ سيد قطب رحمه الله، فقد قال في أول الكتاب:
   ( الحياة في ظلال القرآن نعمة. نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه .
   والحمد لله.. لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن فترة من الزمان، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي. ذقت فيها هذه النعمة التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
   لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن.. أنا العبد القليل الصغير.. أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل؟ أي رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟
   أي مقام كريم تفضل به على الإنسان خالقه الكريم؟ ) ا.هـ
   فإذا بذل الإنسان جهده في ذلك فإنه يكون قد تمرّن على أن يفهم القرآن، وهنا سيستفيد إن شاء الله استفادة كبيرة من مطالعة كتب التفسير.
   وهذا الكلام لا يعني أن نفتح الباب لكل شخص بحيث يقول في القرآن برأيه الخاص بقطع النظر عن تفسير أهل القرآن، ولكن هي جهود لابد من بذلها في سبيل استرجاع القدر الرئيسي والضروري من تعامل الإنسان مع كتاب الله تعالى.
   هناك قدر كبير من القرآن هو ميسر لكل أحد يعرف العربية معرفة ضعيفة أو متوسطة، وهذا القدر لا يصح فيه أن يقول: لا أفهم حتى أقرأ كتب التفسير!
   فمثلا: في قوله تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص ‏من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) [البقرة:155]
   هل يحتاج أي مسلم إلى الرجوع إلى المفسرين أو كتب التفسير ليعلم أن ما أصابه الله به من الفقر والخوف الذي يمر به هو من سنن الله تعالى وأنه لو صبر على ذلك فإنه يكون ممن يبشرهم الله تعالى بالخير؟
   فالقرآن بالقدر الذي يعني كل مسلم لابد أن يكون زاده اليومي، وينبغي أن نرى المصاحف في أيدي المسلمين، في الشوارع والمتنزهات والمنتديات، وفي التجمعات العائلية وتجمعات الأصدقاء والمعارف.. فنرى التدارسات بين المسلمين حول آيات القرآن، وإن لعموم المسلمين مقدارا كبيرا جدا من القرآن تستوعبه أذهانهم وقدراتهم العادية أو البسيطة، وليست كل الآيات في القرآن هي كآيات الأحكام.
   بل إن حتى آيات الحكام في القرآن الكريم لها وجهان:
   وجه ظاهر المعاني : وهو الأحكام المباشرة الواضحة. وهذا يشترك فيه كل الناس.
   ووجه اجتهادي استنباطي دقيق : وهو تفاصيل الأحكام الاجتهادية. وهذا من شأن أهل الفقه والأصول - أي أصول الفقه – فالمرجع فيه إلى الفقهاء (وهم غير موجودين في زماننا تقريبا).
   فالشخص العادي إذا له مساحة في القرآن، ثم تأتي مساحة التخصص لأهل التخصص، من حيث دقائق المسائل ودقائق اللغة ..إلخ.
   فمثلا قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [المائدة:6] يفهم كل قارئ للقرآن أنها في أركان الوضوء، وأن غسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين وغسل القدمين إلى الكعبين ومسح الرأس هي أركان الوضوء.. فهذا يفهمه كل مسلم قارئ للقرآن. أما ما هو مقدار مسح الرأس.. وأن الرأس مجملة وبينتها السنة.. أو هي كل الرأس مذكورة ابتداء في الآية.. وهل يجب الترتيب أم لا.. وكون حرف الواو يفيد مطلق الجمع ولا يفيد الترتيب.. إلخ، فهذا من شأن المتخصصين .
   وهكذا.. يجعل الله تعالى لكل المسلمين نصيبا من القرآن، فلا تضيع نصيبك منه.. أيها المسلم !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق