السبت، 12 مارس 2011

الموانع الخمسة/ االمانع الثالث : التأثر الذاتي بألفاظ القرآن



المانع الثالث
التأثر الذاتي بألفاظ القرآن
   هذا السبب قد يبدو للقارئ غريبا بعض الشيء، ولكنه شيء واقعي نعيشه ويمكن أن نشعر به لو انتبهنا إليه، بل ويشعره غيرنا كذلك من غير المسلمين! بل ويشعره من لا يعرف اللغة العربية!!
   تعال أخي القارئ نأخذ جولة مختصرة في السيرة النبوية نكتشف من خلالها شيئا ما، ثم نعود لننظر أمر هذه المشكلة...
   جاء في السيرة النبوية أن عتبة بن ربيعة كان جالسا يوما مع بعض أفراد من قريش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم جالسا وحده في الحرم، فاقترح عتبة بن الربيعة على أصحابه أن يقوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويعرض عليه عرضا لعله يقبله، فوافقوه على ذلك...
   فقام عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرض عليه المال إن كان يريد المال، وعرض عليه الشرف ورئاسة الكلمة إن كان يريد ذلك، وعرض عليه الملك والسلطان إن كان يريده، أي إنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد بدعوته الإسلامية شيئا من ذلك حققوه له ، على أن يكف عن دعوته وعن إساءته إلى آلهتهم الباطلة.
   ثم عرض عتبة في النهاية أن لو كان الوحي الذي يأتيه هو شيء من التخيلات أو التهيؤات، فإنهم يبذلون له من أموالهم ويجلبون له من يشفيه حتى يشفى.. فلما سكت عتبة بن ربيعة وفرغ من كلامه، قال له رسول الله :
   " أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ "
   فقال : نعم.
   قال : فاستمع مني:
   (حم، تنزيل من الرحمن الرحيم، كتاب فصلت آياته قرانا عربيا لقوم يعلمون، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون، وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) [فصلت:1-5]
   فلما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ من سورة فصلت أنصت عتبة بن ربيعة للقرآن! وألقى يديه  خلف ظهره واستند عليهما، وهو يركز في القرآن!
   ثم انتهى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى آية السجدة من السورة فسجد، ثم قال:
   " قد سمعت يا أبا الوليد ، فأنت وذاك "
   فلما  رجع عتبة إلى قومه لاحظوا عليه تغيرا، فلما سألوه قال:
   سمعت قولا والله ماسمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم.
   هل تلاحظ ؟.. لقد حدث شيء في نفس عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن..!
   سنعود إن شاء الله ونرى ما هو هذا الشيء ولكن دعنا نتاول مثالا آخر من السيرة النبوية..
   في ذات ليلة خرج أبو سفيان بن حرب وأبو جهل والأخنس بن شريق كل واحد بمفرده.. خرجوا ليستمعوا لقراءة النبي للقرآن وهو يصلي في بيته!
   وكل واحد يظن أنه الوحيد الذي خرج.. وظل كل واحد منهم مختبأ يسمع القرآن، حتى طلع الفجر وقام كل واحد ليرجع إلى منزله، فالتقوا في الطريق عن غير قصد منهم، فلام بعضهم بعضا على هذا الفعل، وقال بعضهم لبعض: لاتعودوا لهذا الفعل فلو رآكم بعض سفهائكم – أي خفاف العقول - لأوقعتم في أنفسهم شيئا.
   ثم تكررت نفس الأحداث في الليلة التالية !!
   ثم في الليلة الثالثة تكرر منهم الذهاب والجلوس والاستماع للقرآن!! وظلوا متخبئين كل واحد بمفرده إلى الفجر كما في الليلتين السابقتين، ثم لما قام كل واحد ليرجع إلى بيته التقوا كذلك في الطريق ، فقال بعضهم لبعض لا نتحرك من مكاننا حتى نتعاهد على ألا نعود...
    ما الأمر إذا ؟.. الأمر هو أن القرآن يحمل خاصية لا يحملها أي كلام آخر؛ وهو (التأثير الذاتي) في النفوس.
   ومعنى التأثير الذاتي في النفوس هو أن القرآن إذا قرأه الإنسان على أصوله بإتقان المخارج وصفات الحروف، والتزم القارئ الهيئة المناسبة من الوقار والإجلال والسكينة، فإن القرآن يكون له تأثير كبير في نفوس الناس حتى وإن لم يكن الإنسان فاهما له، بل حتى وإن كان من غير العرب أصلا!!
   وفي هذا يحكي لنا الأستاذ سيد قطب رحمه الله تجربته مع السيدة اليوغسلافية التي كانت على ظهر السفينة المسافرة إلى الولات المتحدة سنة 1948م، وأنبه القارئ إلى أن الأستاذ سيد قطب هنا قد فصّل هذه الحقيقة تفصيلا جيدا، فنرجو من القارئ التركيز في كلامه. يقول رحمه الله:
   (إن الأداء القرآني يمتاز ويتميز من الأداء البشري.. إن له سلطاناً عجيباً على القلوب ليس للأداء البشري؛ حتى ليبلغ أحيانا أن يؤثر بتلاوته المجردة على الذين لا يعرفون من العربية حرفاً.. وهناك حوادث عجيبة لا يمكن تفسيرها بغير هذا الذي نقول - وإن لم تكن هي القاعدة - ولكن وقوعها يحتاج إلى تفسير وتعليل . . ولن أذكر نماذج مما وقع لغيري؛ ولكني أذكر حادثا وقع لي وكان عليه معي شهود ستة، وذلك منذ حوالي خمسة عشر عاماً..)
   فننتبه هنا إلى أنه يقرر وجود (التأثير الذاتي) لمجرد التلاوة للقرآن، سواء وقع هذا التأثير على من يفهمون العربية أو لا يفهمونها.. ثم يقول رحمه الله حاكيا القصة:
(..كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية تمخر بنا عباب المحيط الأطلسي إلى نيويورك؛ من بين عشرين ومائة راكب وراكبة أجانب ليس فيهم مسلم.. وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة في المحيط على ظهر السفينة! والله يعلم أنه لم يكن بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة؛ وحاول أن يزاول تبشيره معنا!.. وقد يسر لنا قائد السفينة - وكان انجليزياً - أن نقيم صلاتنا؛ وسمح لبحارة السفينة وطهاتها وخدمها - وكلهم نوبيون مسلمون - أن يصلي منهم معنا من لا يكون في "الخدمة" وقت الصلاة! وقد فرحوا بهذا فرحاً شديداً، إذ كانت المرة الأولى التي تقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة. . وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة؛ والركاب الأجانب - معظمهم - متحلقون يرقبون صلاتنا!.. وبعد الصلاة جاءنا كثيرون منهم يهنئوننا على نجاح "القدّاس" !!! فقد كان هذا أقصى ما يفهمونه من صلاتنا ! ولكن سيدة من هذا الحشد - عرفنا فيما بعد أنها يوغسلافية مسيحية هاربة من جحيم "تيتو" وشيوعيته ! - كانت شديدة التأثر والانفعال، تفيض عيناها بالدمع ولا تتمالك مشاعرها. جاءت تشد على أيدينا بحرارة؛ وتقول- في إنجليزية ضعيفة - إنها لا تملك نفسها من التأثر العميق بصلاتنا هذه وما فيها من خشوع ونظام وروح!.. وليس هذا موضع الشاهد في القصة.. ولكن ذلك كان في قولها: أي لغة هذه التي كان يتحدث بها "قسيسكم"! فالمسكينة لا تتصور أن يقيم "الصلاة" إلا قسيس - أو رجل دين - كما هو الحال عندها في مسيحية الكنيسة! وقد صححنا لها هذا الفهم! وأجبناها.. فقالت: إن اللغة التي يتحدث بها ذات إيقاع موسيقي عجيب، وإن كنت لم أفهم منها حرفا.. ثم كانت المفاجأة الحقيقية لنا وهي تقول: ولكن هذا ليس الموضوع الذي أريد أن أسأل عنه.. إن الموضوع الذي لفت حسي، هو أن "الإمام" كانت ترد في أثناء كلامه - بهذه اللغة الموسيقية - فقرات من نوع آخر غير بقية كلامه! نوع أكثر موسيقية وأعمق إيقاعا.. هذه الفقرات الخاصة كانت تحدث فيّ رعشة وقشعريرة! إنها شيء آخر! كما لو كان - الإمام - مملوءا من الروح القدس! - حسب تعبيرها المستمد من مسيحيتها! - وتفكرنا قليلا. ثم أدركنا أنها تعني الآيات القرآنية التي وردت في أثناء خطبة الجمعة وفي أثناء الصلاة! وكانت - مع ذلك - مفاجأة لنا تدعو إلى الدهشة، من سيدة لا تفهم مما نقول شيئا !
   وليست هذه قاعدة كما قلت. ولكن وقوع هذه الحادثة - ووقوع أمثالها مما ذكره لي غير واحد - ذو دلالة على أن في هذا القرآن سراً آخر تلتقطه بعض القلوب لمجرد تلاوته. وقد يكون إيمان هذه السيدة بدينها، وفرارها من الجحيم الشيوعي في بلادها، قد أرهف حسها بكلمات الله على هذا النحو العجيب.. ولكن ما بالنا نعجب وعشرات الألوف ممن يستمعون إلى القرآن من عوامنا لا يطرق عقولهم منه شيء، ولكن يطرق قلوبهم إيقاعه - وسره هذا - وهم لا يفترقون كثيرا من ناحية فهم لغة القرآن عن هذه السيدة اليوغسلافية!!!) ا.هـ
   ومن هذه القصة الماتعة التي تعمدت أن أضعها بطولها، يتبين لك أن القرآن قد أثّر تأثيره الذاتي في المرأة التي لا تعرف اللغة العربية أصلا، وأن جماهير المسلمين الآن تتأثر به هذا التأثر وهي لا تفهم القرآن، تماما كما أن المرأة اليوغسلافية لا تفهم القرآن..
   بل أكثر من هذا، وهو أن بعض اليهود والنصارى كانوا يسلمون حينما يسمعون القراءة الصحيحة والجميلة للقرآن الكريم!
   يخبرنا بهذا إمام الدنيا في القراءات القرآنية محمد بن الجزري، وذلك في كتابه (النشر في القراءات العشر) فيقول رحمه الله :
   (ولقد أدركنا من شيوخنا من لم يكن له حسن صوت ولا معرفة بالألحان إلا كان جيد الأداء؛ قيما باللفظ؛ فكان إذا قرأ أطرب المسامع؛ وأخذ من القلوب بالمجامع، وكان الخلق يزدحمون عليه، ويجتمعون على الاستماع إليه أمم من الخواص والعوام، يشترك في ذلك من يعرف العربي ومن لا يعرفه من سائر الأنام، مع تركهم جماعات من ذوي الأصوات الحسان، عارفين بالمقامات والألحان؛ لخروجهم عن التجويد والإتقان. وأخبرني جماعة من شيوخي وغيرهم أخباراً بلغت التواتر عن شيخهم الإمام تقي الدين محمد بن أحمد الصائغ المصري رحمه الله وكان أستاذاً في التجويد أنه قرأ يوماً في صلاة الصبح }وتفقد الطير فقال لا مالي أرى الهدهد{ كرر هذه الآية فنزل طائر على رأس الشيخ يسمع قراءته حتى أكملها فنظروا إليه فإذا هو هدهد، وبلغنا عن الأستاذ الإمام أبي محمد عبد الله بن علي البغدادي المعروف بسبط الخياط مؤلف المبهج وغيره في القراءات رحمه الله أنه كان قد أعطى من ذلك حظاً عظيماً، وأنه أسلم جماعة من اليهود والنصارى من سماع قراءته..) ا.هـ
   إن الأمر هنا لا يتعلق بجمال الصوت، ولا بالمقام الموسيقي الذي يقرأ به القارئ ويحاول أن يلتزم به كما يفعل البعض الآن ممن لا يوقرون القرآن حيث يتعلمون المقامات الموسيقية!.. إن الأمر هنا هو شيء موجود في ذات القرآن، هو تأثير ذاتي ينبع من كونه قرآنا، ولا تتحقق هذه الميزة في أي كلام آخر.
   إذا كان الناس فيهم المتخصصون الذين يتوجهون في القرآن إلى دقائق المسائل، وإذا كان جمهور كبير من الناس  يستطيعون فهم المعاني الأساسية والعامة في القرآن لأنهم يعرفون اللغة العربية ولو من بعيد... فإن البشرية كلها تلحظ هذا التأثير الذاتي في القرآن، والذي يأخذها ويذهب بها، سواء كانوا من العلماء المتخصصين، أو كانوا من العارفين باللغة العربية معرفة عامة، أو كانوا من الذين لا يعرفون اللغة العربية أصلا ولا يتخصصون في شيء على الإطلاق!
   هذا من عظمة القرآن، كلام الله..
   ولكن.. كالعادة، تعامل الناس مع هذا الشيء الجميل تعاملا سلبيا، فإذا سمع كثير من الناس القرآن وتأثروا به دون فهم معناه، اكتفوا بذلك التأثر، وظنوا أن هذا التأثر هو المطلوب من سماع القرآن.
   ونلاحظ هذا في حال كثير من الناس الذين هم بعيدون جدا عن فهم القرآن وعن العمل به، ثم هم يحبون الاستماع الى القرآن لتستمتع نفوسهم بما تجده من تأثير القرآن الخلاب ، فإذا استمعوا واستمتعوا  ظنوا أن ذلك هو المراد تحققه من القرآن، وأنه هو الهداية التي تحدث به، وإن لم يقولوا ذلك بألسنتهم، فإن للنفس وقناعتها حديثا لا يشترط أن يتلفظ به اللسان، فالنفوس تقتنع وتكتفي بذلك التأثير.
   هذا التأثير بالقرآن ربما كان أكثر إشكالا من المشكلتين السابقتين؛ لأن وقوع الأثر في نفس سامع القرآن وشعوره بحقيقة هذا الإحساس يجعله يلمس بيديه شيئا حقيقيا قد حدث بسماعه للقرآن فيكون قد لمس شيئا حقيقيا قد حصل بهذا السماع، بخلاف موضوع الإجلال والتعظيم، فربما يتطرق إلى نفسه أنه موروث بحكم أنه ولد من أب وأم مسلمين ووسط أناس يقبّلون المصحف ويضعونه على الأرفف. وبخلاف موضوع الأجر على القراءة المجردة، لأن الأجر ربما يحدث وربما لا يحدث، وهو على كل حال من أمور الغيب، أما الشعور الحادث بالقراءة فهو شيء ملموس قد وقع فعليا، وقد تيقن الإنسان حدوثه في نفسه.
العلاج:
   اعلم أولا وقبل كل شيء، أن هذا الشعور الذي يأتيك حينما تسمع القرآن هو شعور مشترك يحدث للمسلم والكافر!
   فربما يسمع الكافر القرآن فيتأثر تأثرا شديدا ثم لا يهديه الله للإسلام!
   وقد رأيت ما كان من عتبة بن ربيعة لما سمع القرآن وتأثر به، ولكنه لم يؤمن لما سمعه، بل ذهب يحذر قومه من التعرض لعظمة القرآن! مما يؤكد أن القرآن قد أثر في نفسه، ولكن هذا التأثير قد أتى بثمرة سلبية، لأن قلبه أصلا لم يكن مستعدا للإيمان.. وكذلك الثلاثة وهم أبو سفيان بن حرب وأبو جهل والأخنس بن شريق كل مرة يلوم بعضهم بعضا ويتفقون، ثم في المرة الثالثة تعاهدوا ولم تذهب عداوتهم للقرآن رغم تأثرهم به!
   إذا ، فالتأثر وحده لايثبت لك به أي فضل ، لأنه ليس نابعا منك ابتداء، بمعنى أنه ليس ناتجا عن تصرف منك ولا تعظيم وإجلال منك ولا حتى رغبة في الأجر.
   فالكفار لا يعظمون ولا يرغبون بالأجر ورغم ذلك فقد تأثروا بالقرآن.. لذلك أسميناه (التأثير الذاتي) أي أنه من ذات القرآن، ولا دخل لإيمان الشخص فيه.
   وكما قرأنا في كلام الإمام ابن الجزري أنه حتى الذين لا يعرفون العربية يستوقفهم القرآن.
   إذا عرفت هذا فينبغي أن تدرك أن المطلوب منك تجاه القرآن لم يتحقق بهذا التأثر الذي وقع داخلك، وعليك أن تبدأ حالا في تدبر القرآن في معانيه وأحكامه، بقطع النظر عما يحدث داخلك من الشعور بسماع القرآن، فقد عرفت ما هو مصدره. والله تعالى يوفقك .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق