الأربعاء، 22 فبراير 2012

العلوم الشرعية بين المتون والملكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وبعد..

فلما كنت أبدأ في دراسة أي علم من العلوم الشرعية الشريفة، كنت أرى فيه نوعا من الصعوبة، ضرورة أني أنطلق فيه من نقطة الصفر كما يقال، وكانت تنتابني حالات من الضيق والشعور بوعورة هذا العلم، حتى كأني أشعر أن المتن المدروس هو بحر لا يتناهى سالكه إلى شاطئه. وهذا الشعور ربما كان شعوا إيجابيا لأنه يدفع النفس إلى تلقي العلم بنوع استعظام وتقدير.
سوى أنه بمجرد الانتهاء من أبواب المتن المدروس، وبمجرد استحضار الذهن لأبوابه من خلال قراءة أكثر من شرح عليه،وبمجرد أن تنحصر المادة الرئيسية لهذا العلم بين عيني الدارس يقع له واحد من أحد شعورين:

إما أن يشعر بامتلاكه لهذا الفن، وأنه قد تقدم فيه، وأنه صار بين عينيه، وهذا طالب قد غررت به نفسه، ذلك لأنه لم يحصل (العلم) كما ظن، وإنما حصل نتائج هذا العلم التي وضعها له العلماء جاهزة سائغة في أبواب هذا المتن المختصر، لتكن له مدخلا لا منتها. فمتن "الخريدة البهية" في عقيدة أهل السنة مَن حَفِظَه وقرأ شروحا عليه فإنه يكون قد وقف على رؤوس عقائد أهل السنة، لكنه لا يكون قد حصلت له الملكة بعد، والتي يستطيع من خلالها التنظير على صحة هذه العقائد والاستدلال عليها.

وإما أن يشعر الطالب شعورا آخر إيجابيا، وهو أنه ما حصّل من المتن إلا مسائل واضحة مبتدأة منتهية لا تصلح أن تكون مجالا للتفاضل بين الدارسين لهذا العلم، فإنه لو كان العلم هو هذا الذي حواه المتن فما الذي يجعله علما تتفاوت فيه الملكات؟

كثيرا ما خطر هذا السؤال في نفسي: إنه بمجرد أن أحصل متنا من المتون في علم شرعي شريفـ وأطبقه وأناقشه مع بعض المهتمين، يقال إنه (يتخصص) في هذا العلم؟! وما بال الناس يقولون إن فلانا متخصص في أصول الفقه لو درس وحفظ مثلا متن الورقات للجويني؟

لم أقنع في نفسي بهذا التقسيم، لأن تحصيل متن من المتون في أي علم من العلوم هو تحصيل لـ (علم منظم) يعني مسائل مبتدأة منتهية، مغلقة الأقواس، كعلوم الطب والتشريح والحساب، من شأن من يملك عقلا سليما أن يحصلها، فهو محصل لها بالفعل أو بالقوة القريبة، فلا يعني فهمُها بالفعل أن فلانا بلغ منزلة في العلم، وإنما يبلغها إن تمكن في هذا العلم، وطالت فيه أعوامه، وأنتج نتاجه الخاص، فلخص هذا النتاج في متون كما فعل أسلافه، كله بشرطه الذي لا يسع له هذا الاختصار.

لذلك فكثيرا جدا ما نظرت إلى بعض المتخصصين في علوم أخرى من علوم الدنيا، وقلت في نفسي: هذا أظنه يمكن من فهم واستيعاب وحفظ متون كذا وكذا في أصول الفقه في فترة وجيزة كشهر، وباستيعاب كامل.

نعم، إن التمايز لا يقع بتحصيل المتون التي هي علم (منظم) أو (أكاديمي) كما يسمى. إن متن "نور الإيضاح" للشرنبلالي، أو متن "المختار للفتوى للموصلي في فقه الإمام أبي حنيفة، وإن متن "مختصر المنار" لطاهر بن حبيب الحلبي، أو حتى أصله "منار الأنوار" للإمام النسفي في أصول الفقه- أنا أجزم بإمكانية شرح هذه المتون وقابلية استيعابها لكل ذي عقل سليم، دون نوع ملكات خاصة إلا لو كان ثمة خلل في سلامة العقل أو الطبع تدفع به عن هذه المتون التي لا تقبل سوى العقول السليمة. فذو العقل السليم إذا استقر في المجلس وقرر استيعاب المتن فيحصله غالبا إن انقطع عن الشواغل التي تشغل عن أية دراسة، لكنه لن يتجاوز في هذا العلم حد (المعلومات) و (المسائل) التي سطرت له في المتن، والتي هي خلاصة جهد العلماء المجتهدين الذين عصروا العلم عصرا واستخرجوا خلاصته وجمدوها في هذه المتون التي تعد بوابة يلزم العبور منها على كل سالك لطريق العلم.

فالخلاصة إذا : المتون أساس العلوم، فلا يقع بها التفاضل بين المشتغلين بالعلم، حيث الجميع على أقدام متقاربة أو متساوية في تحصيلها، فلولاها ما كان بناء من الأصل. وهذا كان قد تحصل في نفسي من خلال شعوره ومراقبة نتاج أهل العلم الذين بلغوا مرتبة في علومهم، لا نراهم يتنافسون بأصول متون، ولا يُمدحون بتفوقهم على غيرهم بتحصيل أسس علومهم، إلى أن وقفت على ما يؤيده نصا من كلام الزمخشري رحمه الله تعالى من خلال ما كتبه في مقدمة تفسيره "الكشاف" فقال:

(اعلم ان متن كل علم وعمود كل صناعة طبقات العلماء فيه متدانية وأقدام الصناع فيه متقاربة أو متساوية إن سبق العالم العالم لم يسبقه إلا بخطا يسيرة أو تقدم الصانع الصانع لم يتقدمه إلا بمسافة قصيرة وإنما الذي تباينت فيه الرتب وتحاكت فيه الركب ووقع فيه الاستباق والتناضل وعظم فيه التفاوت والتفاضل حتى انتهى الأمر إلى أمد من الوهم متباعد وترقى إلى أن عد ألف بواحد ما في العلوم والصناعات من محاسن النكت والفقر ومن لطائف معان يدق فيها مباحث للفكر ومن غوامض أسرار محتجبة وراء أستار لا يكشف عنها من الخاصة إلا أوحدهم وأخصهم وإلا واسطتهم وفصهم وعامتهم عماة عن إدراك حقائقها بأحداقهم عناة في يد التقليد لا يمن عليهم بجز نواصيهم واطلاقهم‏.‏

ثم إن أملأ العلوم بما يغمر القرائح وأنهضها بما يبهر الألباب القوارح من غرائب نكت يلطف مسلكها ومستودعات أسرار يدق سلكها علم التفسير الذي لا يتم لتعاطيه وإجالة النظر فيه كل ذي علم كما ذكر الجاحظ في كتاب نظم القراَن.

فالفقيه وإن برز على الأقران في علم الفتاوى والأحكام والمتكلم وإن بز أهل الدنيا في صناعة الكلام وحافظ القصص والأخبار وان كان من ابن القرية أحفظ والواعظ وان كان من الحسن البصري أوعظ والنحوي وان كان أنحى من سيبويه واللغوي وإن علك اللغات بقوة لحييه لا يتصدى منهم أحد لسلوك تلك الطرائق ولا يغوص على شيء من تلك الحقائق إلا رجل قد برع في علمين مختصين بالقرآن وهما: علم المعاني وعلم البيان وتمهل في ارتيادهما آونة، وتعب في التنقير عنهما أزمنة، وبعثته على تتبع مظانهما همة في معرفة لطائف حجة الله، وحرص على استيضاح معجزة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن يكون آخِذًا من سائر العلوم بحظ، جامعاً بين أمرين: تحقيق وحفظ، كثير المطالعات، طويل المراجعات، قد رجع زماناً ورجع إليه، ورد ورد عليه، فارساً في علم الإعراب، مقدماَ في حملة الكتاب، وكان مع ذلك مسترسل الطبيعة، منقادها، مشتعل القريحة ،وقادها، يقظان النفس، دراكاً للمحة وإن لطف شأنها، منتبهاً على الرمزة وان خفى مكانها، لا كزا جاسياً، ولا غليظاً جافياً، متصرفاً ذا دراية بأساليب النظم والنثر، مرتاضاً غير ريض بتلقيح بنات الفكر، قد علم كيف يرتب الكلام، ويؤلف، وكيف ينظم ويرصف، طالما دفع إلى مضايقه ووقع في مضاحضه ومزالقه‏.‏
) ا.هـ

فالطالب الذي يغره فهمه لمتن من المتون واستيعابه لأسس علم من العلوم فيظن نفسه قد بلغ فيه مبلغا لا يساعده على البقاء فيه سوى جهل البيئة من حوله.. هذا الطالب ربما ينبهه ويوقظه من سكرته أن يتصور أن أي إنسان سليم العقل يملك شيئا من الصبر فإنه يحصل ما حصل، فلا يكون اغتراره إذا سوى بسلامة عقله، ويا سخرية من متفاخر يتفاخر بعقل سليم على من ابتلاهم الله بخلل الدماغ. فليس يتفاخر بشيء أقدم عليه.سوى قدرة محدودة وجهد مستطاع شائع.

يبرز ذلك الأمر جليا في "علوم البلاغة" ، حيث إن تلك العلوم هي في أصلها ملكات، ودون تصور الملكات الشعورية فيها لا يمكن تصور تحقق ماهيتها وإن تحققت بعض أجزائها كمسائل مفهومة في ذهن الطالب، وهي في ذلك تخالف سائر العلوم الشريفة، فصحيح أن الجميع يتفق في أن المتون أبواب للعلوم، ومن ثم يغوص الطالب وتتكون الملكات، إلا أن علوم البلاغة هي في ذاتها ملكات شعورية، فلو توقف الطالب في مرحلة منها لا يكون قد استفاد (بلاغة) في الحقيقة، ولو بقدر، بخلاف سائر العلوم كالفقه، وكأصول الفقه؛ فإن مجرد (فهم) المسائل ولو إلى مرحلة معينة دون حصول ملكة هو جزء من ماهية الفقه، ويقال إن الشخص قد حصل فقها، أما البلاغة فلا يبدأ حصول ماهيتها إلا متأخر جدا، وهو عند حصول الملكات، فبقدر ما يتحصل من الملكة يكون تحصُّل البلاغة ذاتها، وقبل ذلك هي (معارف) و (معلومات) كأن يعرف أن قولنا (محمد كالأسد) هو تشبيه لجود أداة الإشارة، وكتفريقه بين التشبيه والاستعارة وفق صياغة الشروح، فهذه معارف ودراية بمسائل، لكنها لا تكون (بلاغة) لارتباطها بالملكة والشعور، وأنى أن يعتبر الشاعر العربي من حصل تلك المعارف قد حصل بلاغة!..

ولا يمنع كون تلك المعارف (شرطا) لحصول الملكات، لكن الشرط كما هو معروف، خارج عن ماهية الشيء، ولا يلزم من حدوثه الحدوث، وإن لزم من عدمه العدم.

ولأجل ذلك فقد راقني جدا تعبير شيخ البلاغيين العصريين الأستاذ محمد محمد أبي موسى، لما وصف في مقدمة بعض كتبه الرائقة متون البلاغة كلها – حتى تلخيص المفتاح – بأنها متون للمبتدئين! تقريرا منه أن هذه المتون وإن تعددت مراحلها وتدرجت في الرتبة فلن تكون إلا للمبتدئين، حتى يحصل الحس البلاغي بالتوغل والمعايشة في دواوين العرب ولا سيما الشعر الجاهلي.

وهو آخر ما قصدت تقييده من الخاطر، والحمد لله رب العالمين.

كتبه/ محمد يوسف رشيد
26/1/2012م