المانع الخامس
عدم الوعي بأسلوب القرآن
(وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال ياموسى...) [القصص:20]
(وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم...) [يس:20]
(وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه...) [غافر:28]
رجل من أقصى المدينة..! ومن أقصى المدينة رجل..! ورجل مؤمن..!
من هم؟ لماذا لم يذكر الله تعالى أسماءهم؟!! وهل كان أسماؤهم تأخذ حيزا كبيرا؟.. إنه ربما أخذت مساحة أقل..!
لقد قال الله تبت يدا أبي لهب.. فلماذالم يقل: تبت يدا رجل من قريش؟ ماالفارق؟
(فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى...) [البقرة:73]
ما هو هذا الجزء من البقرة الذي ضربوا به الميت؟ لماذا لم يذكره الله؟
(والذين أتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه...) [الرعد:36]
ما هو هذا البعض تحديدا؟ لماذا لم يذكره الله؟
كم عدد أصحاب الكهف؟.. وما هي أسماؤهم؟
ما هو لون كلبهم؟
النملة التي كلمت سليمان ذكرا كانت أم أنثى؟
كيف كانت وفاة عيسى؟ كيف رفعه الله إليه؟
لماذا لم يحدثنا الله تعالى عن كل ذلك؟
أشعر أن القصة الواحدة تتكرر في القرآن بطرق مختلفة، بل بأحداث مختلفة! وبكلام مختلف يقوله أصحاب القصة في كل مرة! مما يظهر أنه تناقض.. فلو قال لي شخص ملحد أو غير مسلم: إن قرآنك متناقض، ما استطعت أن أرد عليه.. ما الأمر؟
يقولون إن كل العلوم موجودة في القرآن.. فلماذا لو فتحت المصحف لا أجد مادة هذه العلوم مقسمة إلى فصول وأبواب، بحيث أستطيع أن أصل إليها بسهولة؟
يقولون إن القرآن يعرض التاريخ.. ولكنني لا أجد عرضا كاملا للتاريخ، بل أجد أجزاء صغيرة موزعة بين الآيات بحيث لا تعتبر مادة تاريخية كاملة..!
يقولون إن القانون القرآني لابد وأن يحكم العالم، ولكني لا أرى نصوصا قانونية، بل أرى نصوصا وعظية فيها أحكام.. فهل هذا هو النص القانوني القرآني الذي يمكن أن أقيم على أساسه المحاكم؟
وأخيرا.. هل أشعر أن القرآن قد تناثرت الموضوعات فيه بشكل غير مرتب في مألوفنا وكأنها تحتاج إلى جمع وترتيب؟
هل قلقت مرة وأنت تقرأ القرآن من أنك ترى الخطاب من الله تعالى ثم يظهر وكأنه سبحانه يخاطب آخرين وكأن الكلام غير متناسق؟... لقد أخبرني صديق يوما أن أحد الشباب صرح له بأنه يشعر أن أحدا غير الله هو الذي يتكلم في القرآن..! فهل عندك نفس الشعور ولكنك لا تصرح به؟
وأنت تقرأ الفاتحة.. أليس القرآن كلام الله؟ فكيف يقول الله إذا: إياك نعبد وإياك نستعين؟!! وهل الله يعبد أحدا ويستعين به؟ أم أن أحدا غير الله يتكلم بالقرآن؟!
هل طرأت هذه التساؤلات أو بعضها على ذهنك؟.. وهل تخاف أن تبوح بها حتى لا تقع في الكفر؟.. حسنا، ولكن على كل حال لن ينفعنا السكوت عن هواجس وخطابات تحدث بالفعل داخل النفس، فالكتمان لن يغير من الأمر شيئا، ولابد من أن نصارح أنفسنا إن أردنا أن نحل الإشكال، ولا مانع كذلك من مصارحة غيرنا ممن يمكنه مساعدتنا في الحل. إن الاعتراف بالداء هو أول طريق الشفاء.
هل تعرف ما هي المشكلة؟
إن المشكلة التي نعيشها اليوم هي أننا لا نفهم (أسلوب القرآن )..
إننا نفتح المصحف لنجد هذا الكتاب متوسط الحجم قد تم تقسيمه إلى 114 وحدة، وهذه الوحدات تسمى (السور) وتتفاوت فيما بينها تفاوتا شديدا في المساحة، ولا تكاد تستطيع أن تقف على موضوع واحد بعينه تناولته هذه السورة أو تلك خاص لو كانت السورة طويلة، بل القرآن كله متشابه... إلخ تلك المشكلات.
إن المشكلة هي أننا لا نفهم أسلوب القرآن، ولكننا لا نصرح بهذا، ونفضل السكوت، ويساعد على السكوت أمران:
الأمر الأول : هو أن قدسية القرآن تمنع من ذكر هواجس النفس واستشكالاتها على الأسلوب القرآني.
فقدسية القرآن كما أنها تمنع من محاولة الفهم ابتداء كما تناولنا في السبب الأول، فإنها تمنع كذلك من التصريح بالاستشكالات لمن حاول أن يفهم القرآن ثم اصطدم في أسلوبه.
الأمر الثاني : هو أن القارئ يحصل على بعض الفوائد والحكم المتناثرة في القرآن، وهذا سيحصل عليه حتما أي شخص يقرأ القرآن، فيقنع نفسه بها، وأنها هي كل الفائدة التي يرجوها من قراءة القرآن، في حين أنها فقط بعض المعارف القرآنية التي يتحصل عليها كل من يقرأ القرآن، بحكم أنه سيفهم بعض الآيات هناك وهناك حتى وإن فقد سياق السورة، ولكنه لن يفهم القرآن الفهم الأصلي الكامل المتماسك، الذي أنزل الله تعالى القرآن لكي نفهمه به، إلا بالتعامل مع السورة كوحدة واحدة متماسكة مترابطة في سياق واحد من أولها إلى آخرها، وتحمل شخصية معينة تتميز بها عن الشخصيات القرآنية الأخرى.
الواقع هو أننا نعيش مشكلة كبيرة جدا مع أسلوب القرآن.. إن الدعاة إلى الإسلام يطلبون من الناس أن يفهموا القرآن وأن يعيشوا به في حياتهم، ولكن.. ماذا يفعل الناس لو كان أسلوب القرآن غريبا عليهم؟ ماذا لو كان مختلفا عن الأسلوب الذي يتلقون به العلوم والمعلومات من كتبهم العادية؟.. إنه يختلف عنها في كل شيء!
كثير من الناس لو اطمأنوا لنا وصدقوا في تشخيص المشكلة لقالوا : إننا نكتفي من قراءة القرآن بالأجر على مجرد القراءة، وبالشعور الجميل تجاهه، وببعض المعاني المتناثرة التي نفهمها من القرآن دون جمع للمعاني، ودون ترتيب لها في سياق السور القرآنية..
أليست هذه هي الكلمات التي ستقولها أنت – عزيزي القارئ - لو صارحتنا بحقيقة ما تشعر به تجاه القرآن ؟.. إن الأمر يحتاج إلى علاج.
العلاج :
إنني أجدني الآن في مشكلة ليست بالهينة، فهذه المشكلة الخامسة والأخيرة ليست مشكلة فردية كالمشكلات السابقة، بحيث يمكننا استعراض المشكلة ثم استعراض علاجها ، إنني أمام مشكلة تتركب من مشكلات متعددة .
إننا حينما نقول إن المشكلة هي عدم فهم أسلوب القرآن، فنحن أمام مشكلات وليست مشكلة واحدة؛ لأن أسلوب القرآن يتكون من عدة صور مختلفة من استخدمات اللغة، وكل صورة من هذه الصور تحتاج إلى أن نتعرف عليها وأن نتدرب على فهمها.
وإننا لا أملك في هذا الكتاب الصغير أن نتناول أشكال أو صور الأسلوب القرآني بحيث نقدم الحلول التفصيلية لكل منها، والذي أملكه في هذا الكتاب هو أن أقدم بعض النماذج من صور أسلوب القرآن، على سبيل التمثيل لا الحصر، وأن أقدم كيفية علاجها لا تفصيل العلاج ذاته، والله تعالى أسأل أن يتم لنا صالح الأعمال.
تلاحظ في القصص القرآني أن الله تعالى لا يورد أسماء بعض الشخصيات على الرغم من أن ذكر الاسم لا يستغرق مساحة من القرآن، بل في بعض المواطن تستغرق الأسماء مساحة أقل.. كذلك ترى أن الله تعالى يذكر أفعالا ولا يذكر كيفيتها، كتوفيه تعالى لسيدنا عيسى ورفعه إليه، فقد عرفنا أنه قد وقع الفعل، ولم يخبرنا الله عن كيفية الوقوع..كذلك لم يبيّن الله تعالى لون الكلب الذي كان مع أهل الكهف على الرغم من أنه ذكر الطرق التي في الجبال وأنها بيض وسود وحمر، وذكر الألوان في مواضع أخرى.. وكذلك نرى القصة تتكرر بكلام مختلف في كل مرة، وكأنها قصة أخرى تماما!
إن هذا يحتاج منا أن نعرف عن (منهج القصة) في القرآن.. فالقصة في القرآن لها منهج مختلف تماما عن القصة في أي كتاب آخر أو القصة عند الناس. فعلينا هنا أن نسأل أهل العلم بالقرآن عن طبيعة القصة في القرآن أو أن نقرأ كتابا موثوقا به في منهج القصة.
وملخص منهج القصة دون تفصيل أن القرآن التزم فيها ما يتوقف عليه الغرض المراد من القصة، أي لا تأتي معلومة في القصة إلا لو كانت مفيدة في موضوع القصة في هذا الموضع تحديدا.. لذلك لا يذكر الله تعالى بعض الأسماء؛ لأن معرفة هذه الأسماء لا يفيدنا.
فماذا نستفيد لوعرفنا اسم الرجل المؤمن من آل فرعون والذي يكتم إيمانه ؟..لا نستفيد شيئا ، إنه رجل مؤمن من آل فرعون.. وهذه المعلومة كافية في هذا السياق ولا نحتاج إلى غيرها.. في حين أن الله تعالى يذكر أسماء الأنبياء في القصة لأن معرفة أسمائهم شيء مهم، وهو أمر مطلوب في الإيمان بالأنبياء والتأسي بهم واتباعهم.
وعلى هذه القاعدة أيضا لم يذكر الله تعالى كيف توفى سيدنا عيسى وكيف رفعه إليه، لأن المقام هنا لا يحتاج إلى ذلك، بل يكفي ما يوضح أن الله تعالى قد نجى نبيه عيسى عليه السلام منهم، فتوفاه ورفعه إليه، وهذا هو فقط المراد بيانه في الموضوع كله.. في حين أن الله تعالى قد ذكر دقائق وتفاصيل بعض المعجزات الأخرى، كما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فقد ذكر الله تعالى تفاصيل إحياء العظام كيف ينشزها ثم يكسوها لحما، وفي نفس القصة لم نعرف اسم الرجل!
وكما في قصة إحياء الطير لنبي الله ابراهيم عليه السلام، فقد ذكر الله تفاصيل توزيع الطير على الجبال، ثم دعوة إبراهيم للطير أن يأتوه، وذكر كيفية الإتيان وأنها بالسعي، ولم يذكر سبحانه أنواع هذا الطير إن كان نعاما أو نوارس أو بجعات أو غير ذلك!
إنها قاعدة توجيه حكاية الأحداث وفق ما يحقق الفائدة، وما لم يذكره الله سبحانه جلت حكمته فلن يجد له القارئ فائدة في القصة.
وقل مثل ذلك في إيراد القصة على أشكال مختلفة في مواضع مختلفة من المصحف؛ إن الكلام في كل مرة يحقق فائدة جديدة بحسب السياق الذي ورد فيه، فبحسب القيمة التي تراد من السياق القرآني يكون السلوك في إيراد القصة. ويفيد في هذا أن تقرأ ما يتعلق بقضية (التكرار في القرآن).
هناك كذلك ظاهرة منتشرة في القرآن تسبب الإرباك للقارئ الذي لا يفهم أسلوب القرآن.. وهو أن القارئ أثناء قراءته يرى أن أطراف الحوار تتبدل! كأن يتحول من التكلم إلى الخطاب، كقوله تعالى: (...وأمرنا لنسلم لرب العالمين، وأن أقيموا الصلاة...) [الأنعام:71-72] فكان في الحال الأول متكلما عن نفسه، ثم تحول إلى الخطاب فيخاطب غيره بإقامة الصلاة فيشعر القارئ بربكة.. هل يتكلمون عن أنفسهم أم يخاطبون غيرهم بما يقولون؟
وكذلك يقول الله تعالى: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا؛ ليغفر لك الله...) [الفتح:1-2]
أليس المتكلم هو الله؟.. فكيف يقول ليغفر لك ولا يقول لنغفر لك؟!
وكذلك يقول الله: (هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم...) [يونس:22]
ما الأمر !! في البداية كان الله يكلمهم مباشرة ويقول: حتى إذا كنتم في الفلك.. ثم يظهر الأمر أن الله يحكي عنهم فيقول: وجرين بهم ..!
ومثل هذا كثير جدا في القرآن العظيم..
أخي القارئ.. يحتاج حل هذا الإشكال إلى دراسة (علم البلاغة) الذي هو فرع من فروع اللغة العربية، فهذا الأسلوب يسمى أسلوب الالتفات، وهو أسلوب عربي قوي متين، له فائدته الكبيرة جدا، حيث يساعدك على تصور الأحداث والعيش معها. فإذا درست أسلوب الالتفات في علم البلاغة وفهمته جيدا انقلب الحال معك على النقيض تماما؛ فبدلا من أن يكون هذا الأسلوب مانعا لك من فهم القرآن، فسيكون بحول الله وقوته ومشيئته سببا عظيما في أن تعيش داخل الأحداث والحوارات التي تقرأها بالمصحف وكأنك ذهبت بجسدك إلى داخل تلك الأحداث وتحضرها بنفسك، لا أنها تقص عليك من خلال كلمات مكتوبة، وهذا ما يسمى بخاصية (التصوير) في القرآن، أي أنك تعيش الأحداث كصور ووقائع تحدث وأنت فيها، لا أنك تقرأها كما تقرأ أخبارا عادية.. وإن أسلوب الالتفات يخدم حصول التصوير للأحداث، فالتصوير هو خاصية قرآنية فريدة، والالتفات هو أحد الأدوات التي يتحقق بها هذا التصوير.
وفي نهاية الأمر عزيزي القارئ، لا أملك أن أتناول حل مشكلات الأسلوب القرآني في هذا الكتاب الصغير كما أخبرتك قبل قليل، ولكن لعلك الآن قد فهمت الفكرة، وأن مشكلات الأسلوب متعددة، وأن علاجها كذلك يتعدد بتعدد المشكلات.
ولعله يكون قد تبيّن لك أن فهم الأسلوب القرآني هو أمر ضروري وعاجل، لأنه بدون فهم هذا الأسلوب لن تستطيع أن تفهم القرآن؛ لأنه لا يشبه كتابا آخر على وجه الأرض..
ولا أقول هذا الكلام فقط من باب تعظيم القرآن وإجلاله، بحيث يعترف كل مسلم أن القرآن الذي هو كلام الله يختلف عن أي كلام آخر؛ بل أقوله عن أسس وتجارب دراسية وبحثية، فلو نظرنا إلى القرآن نظرة بحثية علمية بحته – ولا يصح أن ننظر هذه النظرة أصلا بصفتنا مسلمين – فسنجد أنه كتاب يتميز بأسلوبه وبطريقته، وأن فهم هذا الكتاب يتوقف على دراسة أسلوبه وطريقته الخاصة في البيان، وإن هذا هو الهدف الذي أسأل الله تعالى أن يتمه لنا من خلال ما سنقدمه إن شاء الله من دراسة أو دراسات مشكلات أسلوب القرآن، وفي في إطار مشروع (إحياء علوم القرآن). فحتى ذلك الحين ، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
محمد رشيد
9 / 6 / 2010م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق